الرواية واليهود المغاربة... حوار إدمون عمران المالح | أرشيف

إدمون عمران المالح (1917 - 2010)

 

العنوان الأصليّ: «بيوم واحد نسي ألف عام».

الكاتب (ة): كاظم جهاد.

المصدر: «مجلّة الكرمل».

زمن النشر: 1 كانون الثاني (يناير) 1987.

 


 

الكرمل: تضع في روايتك الجديدة «ألف عام، يوم واحد»، علاقة موازاة بين طرد الفلسطينيّين من أرضهم واتّجاه يهود المغرب إلى ’إسرائيل‘، هل في الإمكان توضيح هذه العلاقة، باستعادة عالم الرواية نفسه؟

إدمون عمران المالح: أريد، بادئ ذي بدء، التأكيد على جانب ’المعيش‘ في الرواية. إنّ ’نسيم‘، بطل الرواية، وجميع الشخصيّات الأخرى، هم أشخاص فعليّون قمت ببناء الكتاب انطلاقًا منهم. كلّهم، إذا صحّ التعبير، يمدّون جذورهم في الواقع. يصحّ هذا الشيء على نسيم، ويصحّ على الشيح ’سكيجي‘، وعلى الضبّاط الفرنسيّين، وعلى مجيد... إلخ. لكن، ثمّة أيضًا، وبالطبع، عمل تمثّل وتحويل، وعبره، ثمّة عمل كامل للذاكرة. هذه الرواية هي رواية الذاكرة بحقّ. تجد فيها العلاقة بين الذاكرة والكتابة، هذه العلاقة الّتي نعرف الآن، بفضل أبحاث فالتر بنيامين، أهمّيّتها للخلق الأدبيّ. الاثنتان، الكتابة والذاكرة، أو الذاكرة والكتابة، تنموان معًا، وتتوغّلان، أعمق فأعمق، في تربة هذا الماضي اليهوديّ – المغربيّ الّذي أنا منتم إليه.

هذه الغطسة في الماضي، تجد محرّكها ونقطة انطلاقها في الغزو الإسرائيليّ لبيروت في صيف 1982. يأتي الغزو، كما تعرف، ليتوّج سياقًا طويلًا هو سياق إنشاء دولة إسرائيل. هناك إذن، هذه الصدمة. إنّ شخصًا، اسمه نسيم، هو الّذي يتلقّى هذه الصدمة، فتدفعه، كما يمكن أن يحدث لكلّ امرئ في مثل هذه الحالة، إلى مراجعة حياته، وماضيه، وتجذّره في هذه الأرض المغربيّة، هو اليهوديّ. لذا، يقرّر أن يرجع من ’الصويرة‘، إلى ’صافي‘، المدينة الّتي وُلِدتُ فيها أنا، والّتي يعيش فيها كلّ من المسلمين واليهود بتمازج وانساجم. يحسّ، في أعماقه بأنّه يهوديّ مغربيّ، لكنّه شاهد على الكثير من اليهود المفتونين بالغرب، وعلى الضبّاط الفرنسيّين في الفترة الاستعمارية. لم أشأ تقديم هؤلاء في صورة كاريكاتوريّة، ولا أن أصوّرهم كمسوخ؛ بل قدّمتهم، في الواقع، كما هم، أي كأشخاص متورّطين في هذه المغامرة الاستعماريّة؛ أشخاص يحبّون هذه الأرض بشدّة، إلّا أنّ وظيفتهم تجعلهم يمارسون عليها دور ’القامع’.

يمكن لأحد أن يتساءل، لماذا فجّر اجتياح لبنان هذه العودة إلى الماضي في ذاكرة نسيم؟ إنّ هذا لا يحدث لأسباب سياسيّة، وإنّما محض إنسانيّة. ذلك أنّ قيام دولة إسرائيل لم يتطلّب طرد الفلسطينيّين من أرضهم فحسب، وإنّما اقتلاع اليهود المغاربة، ويهود بلدان أخرى بالطبع، من بلادهم، لتكوين اليد العاملة الّتي كانت إسرائيل بحاجة إليها لتطوّر اقتصادها – اقتصاد من نمط استعماريّ. الاقتلاعان مرتبطان إذن، لا على صعيد السياسة والأيديولوجيا، وإنّما على المستوى الإنسانيّ العميق. أي أنّ هناك، من جهة، هجرة الفلسطينيّين إلى المنافي، ومن جهة ثانية، هجرة اليهود المغاربة إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، مدفوعين، وبالقوّة أحيانًا، من قبل الصهاينة، بدون أن يكون حدث في المغرب ما يشبه مجازر اليهود الّتي وقعت في أوروبّا الشرقيّة، أو العدوان الّذي تعرّضوا له في سويسرا، بحيث تجد هجرتهم ما يبرّرها.

تتعهّد الرواية بسرد هذه الحكاية – هذا التاريخ. المغرب يستقلّ، وطائفة من ’القبايل‘، شأن العشرات من الطوائف القبائليّة المقيمة هنا منذ آلاف السنوات، تقبل بالهجرة إلى إسرائيل. بين عشيّة وضحاها، من هنا عنوان الكتاب، يُنسَى ألف عام، وبيوم واحد تُشحَن الطائفة في الباص، ويجري الرحيل. إنّني أسرد في الكتابة وقائع ممّا قبل الرحلة: حين خرج القبابليّون مثلًا، وهذه واقعة فعليّة، للبحث عن أنقاض سفينة محمّلة باليهود المغاربة كانت غرقت في البحر. وأسرد وقائع ممّا بعد الرحلة، حين يتوهّم نسيم أنّه في بلاد اسمها ’إسرائيل‘، ويكتشف، شأن الكثير من المغاربة الّذين يأتون إلى القدس للحجّ، أنّ وطنه الحقيقيّ هو هذا الّذي خلّفه وراءه، أي المغرب.

 

الكرمل: هل اعتمدت، بالإضافة إلى العناصر الواقعيّة، أو مخزون الذاكرة، على وثائق أدبيّة أو فنّيّة أو سواها؟

إدمون عمران: أفدتُ، بخاصّة، من فيلم أخرجه صديقي سيمون بيتم، بعنوان: «أوروديت»، وهي مفردة عبريّة تحدّد ظاهرة هؤلاء اليهود الّذين يصطدمون بواقع ’إسرائيل‘، فيخرجون منها. وأنا أقدّم في كتابي، في الواقع، أنماطًا مختلفة من اليهود، ممّن جاؤوا في الأربعينات هربًا من النازيّة واللا ساميّة الأوروبّيّة، وآخرين من الجيل الجديد، جدّ فاشيّين.

لم أشأ أن أكتب رواية أيديولوجيّة عندما كان يجب اتّخاذ مواقف، اتّخذتها في مواقع أخرى، لا في الأدب أو على حسابه.

 

الكرمل: قلت مرّة أنّك كنت تفكّر بتسمية الرواية: «نسيم/ أوليس»، هل أردت كتابة ملحمة هذه الطائفة من الناس؟

إدمون عمران: نعم، كان هذا هو هدفي. حكاية أوليس، كما هو معروف، هي حكاية الرحيل والرجوع. وأنا كنت أريد التدليل، أو جعل التجربة تدلّل على أنّ هؤلاء اليهود المغاربة، الّذين خرجوا إلى إسرائيل، ليس يمكن لهم إلّا أن يعودوا من جديد: إلى أرضهم، إلى أهلهم، إلى ثقافتهم، أوديسة، ألا تعتقد؟

 

الكرمل: علاقة هذا الكتاب برواياتك السابقة، وبخاصّة من حيث الكتابة؟

إدمون عمران: وُصِفَتْ رواياتي السابقة، «المسار الثابت» مثلًا، أو اتُّهِمَتْ بالغموض. مارست في الكتاب الجديد الأسلوب نفسه، ولكن أعتقد أنّني بقيت عند مستوى الحكاية. كتبت تحت تأثير الصدمة، وأردت أن أقول ما كنت أرغب بقوله والّذي كان يجب قوله. أصبح هذا الكتاب بالنسبة إليّ ضروريًّا: كان يجب أن يُكتَبْ. ليس هذا ادّعاء كاتب: كان يجب التحدّث عن هذه المسألة الكبرى، أي اقتلاع الآلاف من اليهود من بلدانهم، الّذي تزامن مع اقتلاع الفلسطينيّين. إلّا أنّ هذا لا يعني أنّه ليس في الكتاب عمل على الكتابة. ثمّة شيء من هذا، بلا سفسطة عقيمة ولا شكلانيّة. لقد اتّبعت في كتابته هذه الذاكرة اللا إراديّة الّتي تنبثق إلى السطح بفعل الصدمة. هذه الحياة الّتي تنشأ في الكلمات.

 

الكرمل: وما تأثير ماضيك النضاليّ السياسيّ على عملك الأدبيّ؟

إدمون عمران: ناضلت في الواقع طوال ربع قرن من الزمان في «الحزب الشيوعيّ المغربيّ». حين يكون المرء سياسيًّا، فهو مجبر على الرجوع إلى ما يُدعى بـ ’اللغة الجافّة‘، أو ’الخشبيّة‘. بعد أن انسحبت من النضال السياسيّ، لم يكن اتّجاهي إلى الكتابة ثمرة قرار مفاجئ. بالعكس، كان نتيجة نضج بطيء. حاجة في الرجوع إلى الذات، ساعدتها الحقيقة المتمثّلة في أنّ المناضل الّذي كنته لم ينقطع عن القراءة ومتابعة الحياة الأدبيّة أبدًا. العمل السياسيّ، بحدّ ذاته، وبعد تخليصه من كلّ ما فيه ممّا هو أيديولوجيّ ومتزمّت، ليس بالشيء السلبيّ، إذ يمكن أن ينطوي على معيش إنسانيّ عميق يربح الكاتب كثيرًا باستثماره.

في يوم، أو آخر، يجد المرء نفسه لا بصدد اتّخاذ قرار بالكتابة، وإنّما متلبّسًا بالـ ’الجرم المشهود‘؛ فالعمل يكتبنا، كما أكّدت على ذلك غير مرّة، وكما أكّد عليه كثر من قبلي.

 

الكرمل: لكلّ أديب ’عائلته‘ الأدبيّة؟ ما هي الأسماء الّتي تشعر معها بقرابة أدبيّة وروحانيّة؟

إدمون عمران: هناك، بالنسبة إليّ، قبل أيّ شيء آخر، الأدب الفرنسيّ، الّذي أعرفه أفضل من غيره. ومن ثمّ أدب أمريكا الشماليّة (كان اكتشاف شتاينبيك وكلاودل حاسمًا في تجربتي في الكتابة)، وأدب أمريكا الجنوبيّة، الّذي يذهب من ليثاما ليما إلى كارلوس فوينتس، وهناك أيضًا الأدب الإسبانيّ، وبخاصّة الشاعر خوسي آنخل بالانته والروائيّ خوان غويتسولو اللذين أقدّرهما لا ككاتبين فحسب، وإنّما كصديقين كانا دائمًا على أتمّ الاستعداد لمساعدتي.

لقد كنت دائم الافتتان بإسبانيا، هذه التربة الّتي احتضنت ثلاث ثقافات، ومكّنت من ظهور، في الوقت نفسه، عباقرة من مثل موسى دي ليوني والقدّيس يوحنا الصليبيّ وابن عربيّ. هناك أيضًا تراثها اليهوديّ المكتوب بالعربيّة (يا للزيجة الرائعة). يذكّر في الغالب ’الميموني‘، وتلامذته. لكن لم يكن ثمّة هؤلاء فحسب، إنّ لمجدّ لإسبانيا أن احتضنت كلّ هذه الثقافات قبل لحظة ’التفتيش‘ الأليمة. وإذا كان هناك من كاتب يجسّد هذا التصاهر بين الثقافات المسيحيّة والإسلاميّة واليهوديّة، فهو ثربانتس (سرفانتس)، الّذي يمثّل، بهذه التعدّديّة، وهذا البحث الفاتن، المغامرة الحديثة للكائن، مغامرة الكتابة.

 

الكرمل: غالبًا ما ترجع في مقالاتك وتصريحاتك إلى المفكّر الألمانيّ فالتر بنيامين، كيف تحدّد إسهامه في الفكر الحدث؟

إدمون عمران: يمثّل بنيامين في نظري علامة هامّة في الفكر الإنسانيّ الحدث. ترك صفحات لا تُضاهى حول بودلير وبروست، والكتابة والترجمة والسرديّة معه تشهد الولادة الحقّة للفكر الحديث: هذه المجابهة المأساويّة بين التراث والحداثة. يجب كذلك التفكير بنهايته الفاجعة، منتحرًا على الحدود الإسبانيّة، هاربًا من «الغستابو». انتحار هو كتابة تراجيديّة عن شرط الحديث.

 

الكرمل: والأدب العربيّ؟ يشهد اليوم سعيًا إلى العالميّة، ما حظّه في ذلك، في نظرك؟

إدمون عمران: لا أعرف، أوّلًا، لماذا لا يكون له حظّ في العالميّة، لا أعرف أدبًا لا يتمتّع بهذا الحظّ. بعد هذا، يجب ألّا ننطلق من إشكاليّات زائفة، كالقول مثلًا بأنّ العرب لا يعرفون الرواية؛ فسرعان ما يمكن نقض مثل هذه الأحكام. عرف العرب الحكاية والملحمة والقصائد الطوال، وما هذه إن لم تكن أشكالًا تمهّد للرواية؟ أو التفريق بين الشعر والنثر، والقول بأنّ العرب شعب شاعر، فهذا التفريق هو الآخر مصطنع.

أمّا عن الكتابة في أقطار المغرب؛ فالوضع يتعقّد أكثر؛ فليس هناك فقط العربيّة الفصحى، بمواجهة الفرنسيّة الّتي فرضها المستعمر (أو الإسبانيّة في بعض المدن)، وإنّما اللهجات أيضًا. وهي مصادر ثروة إنسانيّة وأدبيّة يجب أن يفيد منها الكتّاب، الّذين يتّجهون، مع ذلك، في الغالب، إلى الاكتفاء بمحاكاة الأنماط الكلاسيكيّة.

 

الكرمل: نعرف أنّك واجهت صعوبات كثيرة في نشر هذه الرواية، هل يمكن عرضها في خاتمة هذه المحاورة؟

إدمون عمران: في الوقت نفسه الّذي أحيّي فيه ناشري الشجاع، وهو صاحب دار نشر صغيرة، فإنّ في إمكاني أن أتحدّث بكثير من القسوة عن دور النشر الأخرى. لقد اصطدمت برفض دور النشر الكبيرة، الّتي بقيت تقدّم لي أسبابًا غير أسباب المنع الحقيقيّة. إنّ ثمّة خطرًا يتهدّد كلّ كتاب لا يتبع منطق السوق، إلّا أنّ المشكلة لا تتوقّف عند هذا الحدّ؛ فالصحافيّون والنقّاد الفرنسيّون يحذون حذو الناشرين. أنت محكوم عليك بالإهمال إذا لم يقم ناشر كبير بتبنّيك. إنّني أفكّر بالكاتب الشابّ الّذي يجد كلّ المنافذ مغلقة أمامه. يُباع الأدب اليوم كقطع الصابون أو العلب الغذائيّة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.